أولا : وجود الغير إنجاز: ذ. محمد المغراوي
إ
ن الحديث عن الغير كشرط وجودي وكبعد من أبعاد الوجود الانساني يدفعنا
إلى البحث و التأمل في أهمية الغير وضرورة
وجوده، وإن كان وجوده ضروريا لتدرك الذات ذاتها وتتعقل وجودها.
ü
فهل وجود الغير
وجود ضروري؟ وبتعبير آخر، هل وجود الغير ضروري لوعي الذات بذاتها وإدراك وجودها؟
ü
ألا يمكن أن يكون
وجود الغير مجرد وجود افتراضي، ولا حاجة للذات به، من حيث قدرتها على إدراك ذاتها
ووعيها بوجودها دون حاجة إلى الغير؟
الموقف الأول: وجود الغير غير ضروري
هذا التصور يمثله الفيلسوف الفرنسي روني
ديكارت، الذي يذهب إلى أن وجود الغير ما هو إلا وجود افتراضي. ولتبيين هذا الموقف،
سننطلق من الكوجيطو الديكارتي: "أن أشك إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود"،
فهذا القول ينظر إلى الشخص باعتباره ذاتا قادرة على إدراك وجودها و تحقيق وعيها
بذاتها، ليسبالإنطلاق من الغير، أو اعتباره وسيطا، وإنما بالإنطلاق من الذات
نفسها، باعتبارها ذات مفكرة. أكثر من ذلك فديكارت يرى بأن وجود الذات المفكرة هو
الوجود الحقيقي، أما وجود الغير فيبقى مجرد وجود افتراضي فابل للشك. يقول ديكارت:
"نعم أرى أجسادا تتحرك أمامي وتتحدث، ولكن بأي حق وانطلاقا من أي دليل أستطيع
أن أتيقن من كون هاته الأجساد ذواتا واعية. فأنا متأكد فقط بأنني كائن واع لأن
وعيي هو ما استطيع أن أعيشه بشكل مباشر. أما ما أراه من مشاهد بشرية أمامي، فأنا
غير متيقن هل هي وهم، خيال أم واقع، حلم أم يقظة". إذن فديكارت تعرف على ذاته
لا من خلال الغير وإنما من خلال ذاته، وفكره.
قيمة الموقف:تتجلى قيمة الموقف
الديكارتي في كونه منح الذات الإستقلال في التفكير، وربط وجودها بالتفكير دونما
حاجة إلى العالم الخارجي. كما يعتبر موقفه نقد لكل التصورات التي جعلت وجود الذات
ووعيها بذاتها رهينا بوجود الغير. غير أن موقف ديكارت تعرض للنقد من طرف مجموعة من
الفلاسفة نذكر على سبيل المثال لا الحصر الفيلسوف آرترشوبنهاور والفيلسوف الفرنسي
ميشيل فوكو. حيث قال في حقهشوبنهاور: هذا
المجنون سجن الذات في حصن منيع لا يمكن النفاذ منه". كما أكد ميشيل فوكو أن
الأنا المفكرة لدى ديكارت قد أقصت قضايا لها دور في تحديدها وهي التاريخ والمجتمع
والغير.
الموقف الثاني: وجود الغير وجود ضروري لتعي
الذات ذاتها ولتدرك وجودها.
يمثل هذا الموقف مجموعة من الفلاسفة أبرزهم
الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل، والفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر.
ينطلق هيجل في تحديد أهمية وضرورة وجود الغير
من كون وجود الذات _كما وجود الغير_ يكون في البداية وجودا لذاته، حيث يقصي عن ذاته كل ما هو آخر بالنسبة
إليه، ويكون وجوده هذا مجرد وجود بسيط، ووجود فردي. لذلك يقول هيجل : إنهما _الأنا
والغير_ مجبران بالضرورة على الإنخراط في هذا الصراع، لأن على كل منهما أن يسمو
بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته وبالنسبة للآخر". إذن فالغير
حسب هيغل هو ما سيمكن الذات من وعيها بذاتها، وانتقالها من وجودها البسيط، ووجودها
الفردي، إلى مستوى الحقيقة، ومستوى الإعتراف بالذات. لكن، تحقيق الذات للإعتراف من
طرف الغير، لن يتم إلى عبر الصراع، صراع
يخاطر فيه الطرفان معا بحياتهما حتى الموت. ولكن الموت الفعلي لا يحقق هذا
الإعتراف، وإنما يحققه استسلام أحد الطرفين، بتفضيله للحياة على الموت. وبذلك تنشأ
العلاقة الإنسانية الأولى: علاقة السيد بالعبد. وبالتالي فهيغل يرى ضرورة وجود
الغير، من أجل أن تدرك الذات ذاتها، وتسموا بوجودها، وتحقق اعترافا بذاتها.
في نفس السياق يؤكد الفيلسوف الفرنسي في
كتابه الوجود والعدم، على أن للغير دورا كبيرا في تحديد هوية
الأنا، حيث أن الغير هو الذي يمنح معنى
لوجود الذات، و يمنحها القدرة على إدراك نفسها الإدراك الكلي، ولتوضيح هذه العلاقة
يقدم سارتر مثال ظاهرة الخجل la honte كظاهرة سيكولوجية تنتاب أحيانا الأنا، ولكن لا
يمكن الشعور بها إلا بحضور الآخر ونظرته ، وفي هذا يقول سارتر: إن الخجل في تركيبه
الأول هو خجل من الذات أمام الآخر ، فأنا خجول من نفسي حيث أتبدى للغير. إن الغير
حسب سارتر " هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني أنا وبين نفسي"،
فلولا الغير لما استطاعة الذات أن تدرك بنفسها بوصفها خجلا، أوأنها قامت بحركة
سوقية. إن الغير حسب سارتر هو ما يمكن الذات من إصدار الأحكام على ذاتها.
قمية وحدود
الموقف:يكتسي كل من موقف هيجل وسارتر أهميته من حيث
نظرته إلى الغير باعتباره ضرورة وجودية بالنسبة للذات، لكي تدرك وجودها وتعي
ذاتها، وفي هذا نتاقاد للتصورات التي جعلت من وجود الغير مجرد وجود افتراضي. غير
أن هناك ما يمكن أن ننتقد فيه تصوري هيجل وسارتر، فهيجل جعل العلاقة بين الذات
والغير علاقة تصادمية قائمة على الصراع، وسارتر جعل الغير كابحا لحرية الذات من
خلال نظرته، وهنا يمكن نقد التصورين من حيث نظرتهما للعلاقة بين الذات والغير.
خلاصة
هكذا نخلص بعد هذه الأشواط من التحليل
والمناقشة الفلسفيتين، أن الغير شكل مأزقا فلسفيا كبيرا، حيث دفع إلى البحث في
إمكانية ضرورة وجوده، من عدم ضرورته. وهذا البحث تمخضت عنه جملة من المواقف، تلخصت
في موقفين بارزين، أحدها يؤكد على عدم ضرورةوجود الغير ، ما دامت الذات قادرة على
تحقيق وعيها بذاتها ووجودها انطلاقا من ذاتها فقط، والآخر يؤكد على ضرورة وجود
الغير لوعي الذات لذاتها وإدراكها لذاتها، وآخر يؤكد. ورغم الغير يظل كما قال
سارتر أنا أخرى تشبهني وتختلف عني، وبالتالي وجب الإعتراف به كذات إنسانية تستحق
التقدير والإحترام، سواء كان الغير شخصا، أو عرقا، أو جنسا...
تعليقات
إرسال تعليق