القائمة الرئيسية

الصفحات




ثانيا: معرفة الغير

ذ: محمد المغراوي


من بين الإشكالات التي يطرحها مفهوم الغير، إن كان بإمكان الذات معرفة الغير  من عدم إمكانيتها، وإن كانت معرفة الغير معرفة تخمينية أم يقينية. إذن فالغير باعتباره ذلك الآخر، الأنا الذي ليس أنا يطرح جملة من التساؤلات والإشكالات يمكن صياغتها على الشكل التالي: هل معرفة الغير معرفة ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا كانت ممكنة فهل هي معرفة يقينية أم أنها معرفة تخمينية افتراضية فقط؟ وإذا كانت مستحيلة، فما يمنع من معرفة الغير؟

الموقف الأول: معرفة الغير مجرد معرفة افتراضية
يذهب مجموعة من الفلاسفة إلى القول بعدم إمكانية معرفة الغير معرفة يقينية حقة، وإلى أن معرفة الغير لا تتم إلا افتراضيا، ومن بين هؤلاء الفلاسفة نجد الفيلسوف نيكولا مالبرانش:
تعريف الفيلسوف:نيكولا مالبرانش (1638 _ 1715)، فيلسوف عقلاني من فلاسفة القرن السابع عشر. من مؤلفاته: مباحث في العلم النظري والدين، في الأخلاق، البحث عن الحقيقة.
موقف الفيلسوف:يؤكد مالبرانش في كتابه  "في البحث عن الحقيقة" على أن معرفة الغير  ليست إلا معرفة افتراضية تخمينية، ولا يمكن لمعرفتنا بالغير أن تكون يقينية. فنحن لا يمكننا معرف الآخر لا من خلال الذات أي من خلال الاسقاط والمماثلة ولا من خلال الغير ذاته باعتباره وعيا مستقلا.والسبب الذي لا يجعل معرفة الغير معرفة ممكنة راجع حسب مالبرانش إلى كون إحساسات وميولات ومشاعر الأنا غير مماثلة لإحساسات وميولات ومشاعر الغير. وهنا يؤكد مالبرانش أن هناك من الأحكام التي لن نخطأ إن نحن اعتقدنا أن للغير نفسها، مثال أن نقول بأن الغير يدرك أن أربعة هي حاصل ضرب اثنين في اثنين، أو  أن نقول أنه يحب أن يكون عادلا بدل أن يكون غنيا، ,انه يحب الخير اللذة ويكره الشر والألم. لكن، بما أن الجسد له دور في ما يحصل لنا، فنحن نخطئ في غالب الأحيان إذا حكمنا على الآخرين انطلاقا من ذواتنا، يقول مالبرانش: "أشعر بالحرارة، وأبصر مقدارا ما ولونا ما، واشم هذه الرائحة أو تلك عند الاقتراب من بعض الأجسام: أخطئ متى أصدرت حكما على الآخرين من خلالي أنا". ويتبين لنا من خلال هذا القول، أن الذي يجعل الذات تخطأ غالبا حين تصدر حكما على الآخرين هو تدخل الجسد في معرفتنا بذواتنا.والدليل على ذلك أننا نخضع لبعض الأهواء، ونكن صداقة أو كرها لهذا الشيء أو ذاك، إلا أنا الآخرين يختلفون عنا، وبالتالي نكون مخطئين إن نحن اعتقدنا أن الآخرين يشبهوننا.
خلاصة القول، أن معرفة الغير ليس مستحيلة، إلا أنها غالبا ما تكون خاطئة، فهي مجرد معرفة افتراضية، تصيب عن يتعلق الأمر بما هو عقلي، وتخطئ حين تتأسس على الجسد.

قيمة الموقف وحدوده:  يكتسي موقف مالبرانش أهميته من حيث نقده للتصورات التي جعلت معرفة الغير معرفة يقينية، وأيضا من حيث وقوفها عند ما يمنع من معرفة الغير . إلا أن هذا القول جعل من الذات ذاتا متقوقغة حول ذاتها، ذات غير منفتحة، ومنه يمكن أن نتساءل: أليس القول بعدم إمكانية معرفة الغير  هو قول يستند إلى فكرة خاطئة وهي أن هناك عدم الترابط بين العالم الداخلي والعالم الخارجي للشخص؟ وأليست معرفة الغير معرفة ممكنة من خلال التواصل والحوار والتعاطف؟
الموقف الثاني: معرفة الغير ممكنة.
تصور موريس ميرلوبونتي
تعريف الفيلسوف: (1908-1961م) فيلسوف فرنسي معاصر، من مؤلفاته بنية السلوك (1942 م) وفينومينولوجيا الإدراك (1945)
موقف الفيلسوف:يقوم موقف الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي، على أن الوجود الفردي وجود معوي (جماعي)، حيث يتحدد وجود كل ذات باعتبارها وجود مع الآخرين، مما يعني أن قدر الإنسان هو الإنفتاح على الآخر، لأن البقاء حبيس ذاتيته الخاصة سيفرغ وجوده لا محالة من أساس رئيس محدد له، وهو "البينذاتية" التي تفيد أن بين الذوات أمور مشتركة تجعل من وجودهما شيئا واحدا. إن كل من الأنا والغير يملكان من المؤهلات لمعرفة الآخر، وذلك عن طريق التواصل والحوار، فالنطق ولو بكلمات قليلة هو دليل قاطع على أن كل ذات لا يمكن أن تعيش في العالم وحيدة، ما دام أن حقيقة وجودها تكمن في الذاتية المشتركة، أو البينذاتية.
إضافة إلى ذلك فيمكن معرفة الغيرمن خلال سلوكه وتصرفاتها، يقول ميرلوبونتي: "أدرك الغير باعتباره سلوكا، فمثلا انا أدرك حزنه وغضبه في تصرفاته، وعلى محياه وعلى يديه". والقول بمعرفة الغير حسب مالبرانش، لا يعني النفاذ إلى أعماق وعيه، فما نفعل هو استحضار وضعيات. يقول ميرلوبونتي: "إن صديقي هذا سيتألم متى فقد زوجته أو سيغضب متى فقد ساعته بعد أن سرقت منه، أما أنا فسأتألم عندما يمر بمحنة وسأغضب متى غضب". والمراد من هذا القول، هو تأكيد أننا لا نعيش نفس وضعية الغير سواء كانت وضعية فرح، أو وضعية قلق. فحين يفقد شخص زوجته، فهو يغضب من فقدانها، أما أنا فلا، أنا أغضب من غضبه.
تصور ماكس شيلر:
تعريف الفيلسوف:ماكس شيلر (1874-1928)فيلسوف ألماني من مؤسسي المذهب الفينومينولوجيا الى جانب "هوسرل". من مؤلفاته: "طبيعة التعاطف وأشكاله"
موقف الفيلسوف:
على عكس التصورات التي ترى الأنا، أنا وحدية، أي الأنا في حالة انعزاليتهووحدانيته وعدم ارتباطه بالآخرين، لا يمكن لذات أخرى معرفتها حقيقة المعرفة، والتي يمثلها كل من ديكارت ومالبرانش، يتصور الفيلسوف الألماني ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة، شريطة الوعي بأنه ليس عبارة عن مستويين متعارضين، واحد خارجي والآخر داخلي، وإنما اعتباره وحدة متكاملة  يعتبر فيها المظهر الخارجي صورة مطابقة للإحساس الداخلي، وبذلك فإن ما يتبدى على الغير من ملامح خارجية تعكس بالضرورة إحساسات داخلية مماثلة لها.
ففي كتابه "طبيعة التعاطف وأشكاله"، ينطلق شيلر إلى القول بأن معرفة الغير، لا تتم إلا من خلال آلية التعاطف الوجداني التي تجعل الذات تسعى إليه وتفهمه، مع علمها المسبق بأنها لن تتألم ولن تفرح فرحه، لأنها لن تكون هي الغير، ومع ذلك يمكنها أن تتألم وتفرح معه، وأن تقترب منه عبر اقترابها من نفسها، باعتماد نوع من النقل الداخلي للخبرة الوجدانية...
يقول ماكس شيلر: "من المحقق أننا نعتقد بأننا ندرك مباشرة في ابتسامة إنسان آخر فرحه، وفي دموعه حزنه وتألمه، وفي احمرار وجهه خجله، في يديه المتوسلتين دعاءه، وفي حنان ناظريه حبه، وفي صرير أسنانه حنقه وغضبه، وفي حركة جماع يده المتوعدة رغبته في الإنتقام، وفي كلامه نفس المعنى الذي يريد قوله...
قيمة الموقفين وحدودهما:. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .  . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلاصة تركيبية
إن البحث في إمكانية معرفة الغير، أدى بنا إلى كشف أن الغير _وايضا الذات_ له وعي وله جسد. وبالتالي فالقول بإمكانية معرفة الذات، هو قول بارتباط الجسد والوعي، كارتباط الضحك بالفرح مثلا. أما القول بعدم إمكانية عرفة الغير، فهو قول انطلق من كون الجسد منفصل عن الوعي، أو على الأقل  فهو قول بأن معرفة الغير من خلال جسده هي معرفة افتراضية تخمينية لا ترقى لمستوى المعرفة اليقينية.
ورغم كل ذلك، فمعرفة الغير سواء كانت يقينية أو افتراضية،  يجب أن تكون مرتبط بالقيم الأخلاقية السامية، وأن لا تكون الغاية من معرفة الغير على حساب حريته وهويته وكينونته.

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات