القائمة الرئيسية

الصفحات

مجزوءة الأخلاق - مفهوم الواجب - مفهوم السعادة - مفهوم الحرية



مجزوءة الأخلاق
يعد الوجود الإنساني وجودا مركبا، فهو وجود ذو بعدين بعد طبيعي وبعد ثقافي، والبعد الأول يجعل الإنسان عنصرا من عناصر الطبيعة  فقط، لكن البعد الثاني يجعله يتميز عن عالم الطبيعة ويتجاوزه. ومن بين ما يتضمنه البعد الثقافي للإنسان البعد الأخلاقي وهو ما يميز السلوك الإنساني عن السلوك الحيواني باعتبار الإخلاق مجمل المعايير والقيم التي توجه السلوك الإنساني نحو فعل الخير وتجعله يتجنب فعل الشر، من هنا يكون السلوك الإنساني لا كما السلوك الحيواني الذي يحتكم إلى منطق الغريزة فقط، وإنما كسلوك يحتكم إلى إلى منطق الأخلاق. من هنا يكون الإنسان خاضعا ليس كما الحيوانات لمنطق الغريزة وإنما ايضا لمنطق الواجب، وبالتالي أصبح من الضروري التساؤل حول غايات الوجود البشري ، من خلال البحث عن معيار داخلي لتحديد السلوك و البحث عن مدى قيامه على اختيار حر يعلو على كل إكراه، وايضا من خلال التساؤل حول الحرية ذاتها، وكل ذلك يقود إلى التساؤل عن السعادة كغاية إنسانية.
المفهوم الأول مفهوم الواجب
إإذا كانت الأخلاق هي مجمل المعايير والقواعد التي توجه الإنسان وتجعله يسلك وفق منطق الفضيلة والقيم الأخلاقية السامية التي تميز الوجود الإنساني عن الوجود الحيواني، فإن الأخلاق لا يمكن مقاربتها إلا بالوقوف عند أحد المفاهيم الأساسية في الفلسفة الأخلاقية وهو مفهوم الواجب. ويتحدد الواجب  بما يتوجب القيام به، وهو يحيل على معنى الإلتزام بما افرضه على نفسي لا على ما يتحتم علي أن أقوم به. فالواجب بهذا المعنى يقترن بالحرية, غير أن عددا كبيرا من الواجبات تكون قهرية، بحيث تبدو ضرورة يتحتم الخضوع لها. ومن جهة ثانية،  يلزم أن يكون الواجب كونيا وإلا وقعنا في نسبية الأخلاق.
I.            الواجب والإكراه
التأطير الإشكالي
يحيل الواجب على معنى الإلتزام بما افرضه على نفسي لا على ما يتحتم علي أن أقوم به. فالواجب بهذا المعنى يقترن بالحرية، غير أن عددا كبيرا من الواجبات تكون قهرية، بحيث تبدو ضرورة يتحتم الخضوع لها، وبالتالي يمكن أن نتساءل: هل يمكن أن يكون الواجب حرا بالفعل أم أن قبوله لا يتم سوى تحت الإكراه؟ بمعنى آخر هل الواجب إلزام نلزم أم أنه إلتزام نلتزم به؟ وهل ما يحدد الواجب هو العقل وما يرتبط به من إرادة حرة ومستقلة، أم هو المجتمع الذي يحيل إلى التصورات والأحكام والعادات؟
1)    تصور إيمانويل كانط
في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" يرى كانط أن جميع المحاولات التي بذلت من أجل اكتشاف مبدأ الأخلاقية قد انتهت في آخر المطاف إلى الفشل. ويؤكد على أن العقل هو مصدر الواجب الأخلاقي، ومنه تصدر القواعد الأخلاقية المطلقة التي تلزم باحترام القانون الأخلاقي العقلي لذاته، وليس لمصلحة أو المنفعة، ويستحضر كانط مثالا للواجب الخاضع للمصلحة والمنفعة بقوله: "إن طاعة الواجب خوفا من العقاب أو طمعا في منفعة، لا يعتبر فعلا أخلاقيا، لأنه واجب مشروط وليس واجبا لذاته. مثلا الإمتناع عن السرقة خوفا من العقاب لا يعتبر قياما بفعل أخلاقي، أو القيام بفعل الخير من اجل تحقيق مصلحة، أيضا لا يعتبر فعلا اخلاقيا".
إذن فكانط يؤسس الواجب الأخلاقي على العقل، الذي يسميه العقل العملي و الذي هو مبدا الفضيلة ومصدر الواجب الأخلاقي. وعلى الواجب أن يفعل لذته، أي أن نقوم بالواجب من اجل القيام به، وليس من أجل مصلحة أو لذة أو منفعة أو لتحقيق السعادة. من هنا يكون الواجب عند كانط عبارة عن أوامر قطعية صادرة عن العقل العملي ويكون أيضا غير خاضع لغايات نفعية. ومن بين الأوامر القطعية التي توجه السلوك الإنساني وفق الواجب الأخلاقي: عامل الإنسانية في شخصك كما في شخص غير، دائما وأبدا، كغاية وليس كمجرد وسيلة.
يستمد التصور الكانطي قيمته من كونه تجاوز التصورات التي ربطت الأخلاق بالمصلحة والمنفعة، ونذكر على سبيل المثال الفلسفة اليونانية التي ركزت على الفضائل الأخلاقية التي تجعل الإنسان فاضلا وسعيدا وأيضا الفلسفة الابيقورية التي ربطت السلوك الاخلاقي بمنطق البحث عن اللذة واجتناب الألم. إلا أن القول  بإلزامية الواجب الأخلاقي ولد نقدا من طرف مجموعة من الفلاسفة الذين اعتبروا تصور كانط تصورا مثاليا ومجردا لا يحتك إلى الواقع ويشتبه بالواجب العسكري الذي يستبعد الحياة.
2)    تصور إيميل دوركايم:
إذا كان كانط قد جعل الواجب إلزاما داخليا، فإن دوركايم يتفق مع كانط في إلزامية الواجب، لكن يختلف معه حين يقر بأن الواجب يكون محط رغبة، يقول دوركايم: " الصفة الأولى للفعل الأخلاقي هي الإلزام، لكن صفته الثانية الملازمة هي كونه محط رغبة". فالواجب حسب دوركايم وإن كان إلزاما، فليس العقل هو من يلزم به، وإنما المجتمع، من خلال إعطاء الإعتبار إلى اللذة والمرغوبية داخل الإلزام الأخلاقي، حيث أن اللذة والمرغوبية  هو ما يجعلنا نمارس وفق القاعدة الأخلاقية المطلوبة بنوع من الإغراء والرضا. وبالتالي فليس هناك واجب يقوم به الإنسان لذاته، أي يقوم به فقط لأنه واجب، حيث لا يمكن إغفال ما يشجع على القيام به.
قيمة وحدود الموقف الدوركايمي: يجد موقف دوركايم أهميته في تحديده للأساس الإجتماعي للواجب الأخلاقي، إلا أن القول القول بكون الواجب إلزام يضرب في ماهية الوجود الإنساني كوجود حر، وأيضا فالقول بارتباط الواجب بالمجتمع يجعله متغيرا من مجتمع إلى آخر، ما سيسقطه في النسبية.
3)    تصور جون ماري غويو
انتقد الفيلسوف الفرنسي جون ماري غويو الواجب الأخلاقي العقلي الإلزامي، لأنه صوري وصارم يقصي الأهواء ويلغي خصوبة الحياة،  في مقابل هذا الإنتقاد أكد أن غويو أن الواجب هو قدرة طبيعية يملكها كل فرد وتجعله يميل إلى الفعل الأخلاقي دون إكراه أو إلزام. يقول غويو: "الواجب قد ظنوه إلى الآن شعورا بضرورة أو ضغط، وما هو في حقيقة الأمر إلى الشعور بالقدرة... وكل قدرة تنتج وحدها نوعا من الواجب متناسبا معها، إن القدرة على العمل هي واجب العمل".
قيمة الموقف وحدوده: ....................................................................................... .............. ..... .........................................
استنتاج
كاستنتاج حول ما سبق هو أن الواجب قد يكون مصدره العقل اي الذات، كما قد يكون مصدر العالم الخارجي أي المجتمع، وأيضا فالواجب قد يكون إلزاما نخضع له تحت الإكراه، كما قد يكون إلتزاما نلتزم به بحرية وإرادة. لكن الواجب يبقى إطار يوجه السلوك الإنساني، ويخرج به من منطق الطبيعة والغريزية إلى منطق الأخلاق.
II.            الوعي الأخلاقي:
يرتبط مفهوم الواجب بمفهوم الوعي الأخلاقي، وهذا الأخير يشير إلى الضمير الأخلاقي الذي يستحضره الإنسان في تصرفاته، فهو "خاصية تسمح للعقل الإنساني أن يصدر أحكاما معيارية عفوية على القيم الأخلاقية لبعض الأفعال الفردية"، لكن هذا الوعي الأخلاقي قد يكون نابعا من الذات الفردية كما قد يكون مبنيا من خلال الوجود الإجتماعي للفرد، من هنا تطرح مجموعة من التساؤلات والإشكالات: ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟ هل مصدره الذات الفردية أم المجتمع؟ بمعنى آخر هل يوجد وجودا فطريا قبليا في الإنسان أم أنه يكتسب انطلاقا من التجربة؟
1)    تصور جون جاك روسو يؤكد روسو على أطروحة مفادها أن الوعي الأخلاقي يجد مبدأه الأساسي فيما هو فطري وغريزي، فمصدر الوعي الأخلاقي هو إحساس نقدر به الأفعال والأشياء، وهو وحده الذي يميز الإنسان عن الحيوان. وفي ذات السياق يؤكد أن الغريزة هي التي تمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر. إضافة إلى ذلك يميز روسو بين الأفكار والأحاسيس، حيث أن الأفكار مصدرها الخارج في حين أن الأحاسيس مصدرها الباطن، وهي ما يسمح بتقدير الأفكار إصدار الأحكام عليها، فالأحاسيس تشير إلى "حب الذات والخوف من الألم والموت والرغبة في العيش السعيد" وهي ما يساعد الإنسان على العيش مع الآخرين. وفي توضيحه  لذلك التمييز بين الأحاسيس والأفكار، يميز روسو بين الخير ومحبته، فمعرفة الخير ليست فطرية، ولكن ما إن يدرك الإنسان الخير بعقله حتى يقوده وعيه إلى حب الخير "وهذا الإحساس هو وحده الفطري"
من هنا يتضح كيف أن روسو يؤسس للوعي الأخلاقي تأسيسا فطريا، وأنه يربط للوعي الأخلاقي بالأحاسيس ويبين أثرها الخلقي على الإنسان، بحيث أن الأحاسيس هي ما يميز الإنسان عن الحيوان.
قيمة التصور: لتصور جون جاك روسو أهميته من حيث تأكيده على خيرية الطبيعة الإنسانية، التي هي أساس الوعي الأخلاقي، وأساس التمييز بين الخير والشر.... وفي ذلك انتقاد للذين يؤكدون على أن طبيعة الطبيعة الإنسانية هي الشر، وأيضا من حيث تأصيله للوعي الأخلاقي من خلال الطبيعة، وهو ما يجعله كليا لا نسبيا واعتباطيا. إلا أن قوله بارتباط الوعي الأخلاقي بالطبيعة قد يجعلنا ننسى فعالية المجتمع وتأثيره على وعينا الأخلاقي. فألا يمكن أن يمكن أن يجد الوعي الأخلاقي مصدره في العالم الخارجي للإنسان؟
2)  تصور فريديرك نيتشه: عارض الفيلسوف الألماني نيتشه التصورات التي جعلت أساس الوعي الاخلاقي طبيعيا، فهو لا يعتبر الغريزية مصدرا للوعي، بل يؤكد على أنا الوعي الأخلاقي مرتبط بممارسة العنف والقوة، و وبالصراع بين الأسياد والعبيد، وبالعلاقات التبادلية بين الناس، خاصة بين الدائن والمدين، كما ترسخت عبر مظاهر العقاب الجسدي، على شكل واجبات وتصورات أخلاقية. فالمدين في عدم التزامه للدائن يتوجب عليه أن يضع جسده أو حريته أو زوجته رهن إشارة الدائن، كما من حق هذا الأخير أن يمارس عليه العقاب والعنف، ما يجعل الدائن "يشعر في نهاية المطاف بذلك الإحساس الناتج عن تمكنه من احتقار  وإهانة مخلوق ما باعتباره شيئا أدنا منه".
إذن، فالوعي الأخلاقي مرتبط بالصراع بين العبيد والأسياد، ومرتبط وبالقوة والعنف، فالواجبات –يقول نيتشه-  نشأت في أرض لم تخل يوما من "رائحة الدم والعقاب".
قيمة التصور: يستمد تصور نيتشه أهمية من كونه تصور انطلق من الحياة حتى يؤسس للأخلاق والواجبات الأخلاقية تأسيسا نظريا، والحكم على الاشياء انطلاقا من فائدتها ونفعيتها وفي ذلك انتقاد للتصورات الأخلاقية المثالية.
ملاحظة: يمكن استحضار تصورات كل من كانط وإميل دوركايم، فالأول يقول بأن الوعي الأخلاقي مصدره الذات لكن ليس مصدره هو العاطفة وإنما العقل العملي، والثاني قول بأن مصدر الوعي الأخلاقي هو المجتمع، فهو حصيلة الضغوط الإجتماعية التي تتم عبر المؤسسات الإجتماعية كالأسرة والمدرسة...
خلاصة تركيبية:  ....................................................... ................................... ........................................................................................................................
 III.            الواجب والمجتمع
يرتبط مفهوم الواجب بمفهوم المجتمع ، فالحديث عن المجتمع هو حديث عن مجموعة من النظم الثقافية، وهذه الأخيرة تضم من بين ما تضمه مجموعة من الواجبات، إلا أن الحديث عن المجتمع هو حديث عن ثقافات متعدد ومختلفة، ما يجعلنا نتساءل عن إن كان الواجب يتسم بالكونية أم بالنسبية، فهل الواجب نسبي أم كوني؟ وهل  الواجبات الأخلاقية تقتصر على الفرد أم يؤطرها المجتمع؟ و هل الخضوع للواجب واحترامه مرتبط بالذات الفردية أم بالمجتمع ككل؟
1)     تصور إميل دوركايم.
إذا انطلقنا من قول دوركايم "فضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع ولا يعبر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا فإنما يردد صوت المجتمع فينا"، سيتبين لنا جليا كيف أن هذا التصور السوسيولوجي لإميل دوركايم يذهب إلى أن المجتمع هو مصدر ومحدد الوعي الأخلاقي، الذي يوجه السلوك الإنساني داخل المجتمع، كما أن الوعي الأخلاقي لا يرتبط بالذات الفردية فقط ، وإنما بجميع الأفراد، فالوعي الأخلاقي ليس وعي الفرد وإنما وعي المجتمع، وذلك ما يطلق عليه دوركايم "الوعي الجمعي". ومفاد ذلك القول أن لكل مجتمع ضمير جمعي يحدد ويوجه سلوكات الأفراد المنتمين إليه. من هنا يكون الواجب عام ونسبي، عاما من حيث شموليته لجميع أفراد المجتمع، ونسبي من حيث أن لكل مجتمع منظومته الثقافية  التي تحدد الواجبات الأخلاقية.
نخلص من خلال تصور إميل دوركايم لعلاقة الواجب الأخلاقي بالمجتمع، إلى أن الواجب الأخلاقي ينشأ من صميم الحياة الإجتماعية، لهذا لا يمكن أن يستقيم الحديث عن الواجب عند دوركايم إلا بوجود المجتمع.
يستمد تصور دوركايم أهميته من خلال الإحتكام إلى الواقع في تحديد الأخلاق، إلا أن القول بكون كل مجتمع له ضمير جمعي خاص به، يجعل الأخلاق نسبية ومنغلقة.
2)     تصور هينري برغسون
لا يختلف برغسون مع دوركايم في التأكيد على أهمية المجتمع في تشكيل الواجب الأخلاقي للأفراد، حيث يقول: "نتلقى ونحن صغار، من آبائنا ومعلمينا مجموعة من الأوامر والنواهي..." من هنا يكون الواجب الأخلاقي مرتبطا بالمؤسسات الإجتماعية التي تقوم بدور التنشئة الإجتماعية. لكن برغسون يرى أن تلك الأخلاق ليست إلا أخلاقا منغلقة، حيث أنها مرتبطة بمجتمع بعينه، لذلك يدعو إلى ما يسميه بالأخلاق المنفتحة، أي منفتحة على الأخلاق الإنسانية، من خلال الإنعتاق من تلك السلطة الأخلاقية المتعالية، وتكريس الواجب الأخلاقي الكوني بدلا منها، الذي يتعدى ويتجاوز الأخلاق المنغلقة التي يكرسها المجتمع، لأن هذا الأخير يرسخ أخلاقا تتماشى والأفراد المكونين للمجتمع الواحد، والأخلاق الكونية تنفتح على الشمولي وعلى الإنسان ككل بصرف النظر عن انتماءه المجتمعي.
يكتسي تصور برغسون أهميته من خلال دعوته إلى تأسيس أخلاق منفتحة على الإنسان ككل، وكونية تعم كل المجتمعات، إلا أنه يمكن أن تساءل: ألا يعد هذا التصور ضربا في الخصوصية الثقافية لكل مجتمع؟
خلاصة تركيبية:
..............................................................................................................



مفهوم السعادة


تعرف السعادة فلسفيا بكونها: "حالة إرضاء تام للذات، يتسم بالقوة والثبات، ويتميز عن اللذة للحظيتها، وعن الفرحة لحركيتها". وتتحدد السعادة بوصفها غاية يسعى إليها كل إنسان، غير أنه يصعب إعطاء السعادة مضمونا محددا، ذلك أن كل فرد يتمثل السعادة على نحو خاص كما لو أن لكل واحد سعادته، كما لا يمكن التعرف على مكمن السعادة إلا بعديا، مما يجعل السعادة تبدو نسبية. وبالتالي يجب مساءلة مفهوم السعادة كمفهوم فلسفي من خلال التساؤلات التالية :
-         هل هناك معايير ودلائل على السعادة؟
-         هل السعادة واقع يمكن أن يعايش أم أنها مجرد فكرة؟
-         ما العلاقة بين الواجب والسعادة،  هل هي علاقة تكامل أم علاقة إعاقة؟
-          
I.            تمثلات السعادة
التأطير الإشكال: إذا كانت السعادة غاية يسعى إليها كل إنسان، فإنها تبقى ميزة الإنسان التي يتميز بها عن الحيوان. فكيف يتمثل الإنسان السعادة؟  هل يتمثلها في الإشباع العقلي النفسي، أم ما في الإشباع الحسي؟ وألا يمكن القول بأن السعادة تبقى مثالا يطمح إليه الإنسان دون القدرة على بلوغه؟
1)     تصور أرسطو
إن السعادة عند أرسطو لا تعتبر استعداد طبيعيا في الإنسان، بل هي فاعلية. ويميز أرسطو بين نوعين من الفعل، الفعل الذي هو وسيلة، ونقوم به من أجل غايات نفعية، والفعل الذي هو غاية، ونقوم به لذاته، أي أنه غاية في ذاته. وهذا الفعل الأخير يعتبره أرسطو فعلا جليلا وساميا لأنه مطابق للفضيلة ومخالف للرذيلة. ومن بين الافعال التي نقوم بها لذاته يدرج أرسطو فضيلة السعادة، فالسعادة "غاية في ذاتها"، وهي الخير الأسمى لدى الفيلسوف. وإذا كانت السعادة هي الفعل المطابق للفضيلة فالفضيلة هي التأمل العقلي، وهذا الفعل هو أشرف الأفعال، يطلب من لذاته، لا لغايات نفعية. لذلك ينتقد أرسطو التصورات الشائعة التي ترى السعادة في الثروة أو العيش في ضروب الإستمتاع المادي، أو المجد والتشريفات، فكلها تصورات تتسم بالسطحية وترتبط بما حسي ومتغير وليس بما هو عقلي. لذلك يرى أرسطو أن الفلسفة تنطوي على أخلص أنواع اللذة وأبقاها.
قيمة التصور وحدوده.  يكتسي تصور أرسطو قيمته من كونه أسس للسعادة تأسيسا عقليا، وجعلها فضيلة أخلاقية ترتبط بمجرد التأمل العقلي، وليس بما هو متغير وزائل كالثروة والمجد. إلا أن القول بارتباط السعادة بما هو عقلي يقصي الجانب الحسي. فهل السعادة تتمثل فقط في العقل وليس في الجسد أيضا؟
2)     تصور إيمانويل كانط.
يقول كانط: "السعادة هي مثل أعلى  لا للعقل بل للخيال ، و هو مؤسس على مبادئ تجريبية ينتظر الإنسان منها في غير جدوى ان يتمكن من تحديد فعل نصل به على كل شامل لسلسلة من النتائج هي في الواقع لا متناهية".
لا يختلف كانط مع أرسطو في رفض التمثلات التي تربط السعادة بما حسي، منطلقا من فكرة أن ما هو حسي و جزئي و ومتغير ومشروط لا يمكن أن يؤسس لما هو مطلق كالسعادة، إلا أنه يختلف عن أرسطو حيث يؤكد على كون السعادة تشكل نموذجا خياليا، فالسعادة ليست إلا فكرة مثالية يطمح إليها الإنسان دون ان يستطيع بلوغها. يقول كانط: " السعادة ليست موجودة بذاتها بل هي فكرة نطمح إليها".
استنتاج
إن ما يمكن استنتاجه من خلال ما سبق، هو أن السعادة تبقى غاية كل إنسان، إلا أن تمثلات السعادة تتعدد بتعدد التصورات، فهناك من يتمثلها في ما هو حسي تجربي، وهناك من يتمثلها في ما هو عقلي تاملي، إلا أن هناك من يتمثلها على أنها مجرد فكرة يستحيل بلوغها لأنها ليست إلى فكرة أنشأها الخيال الإنساني.

     II.            البحث عن السعادة
إن الحديث عن السعادة باعتبارها غاية يسعى إليها كل إنسان هو حديث في الوقت ذاته عن سبل  تحقيقها و بلوغها. لذلك تم تناول مفهوم السعادة فلسفيا من خلال البحث عن السبل التي تحقق السعادة باعتبارها فضيلة اخلاقية. فما هي سبل تحقيق وبلوغ السعادة؟ هل بإشباع متطلبات الجسد المادية، وامتلاك الخيرات والصحة والنفوذ، أم بتحقيق متطلبات العقل، والعلم والأخلاق؟
1)     تصور فخر الدين الرازي:
في مؤلفه "كتاب النفس والروح" يؤكد الفيلسوف فخر الدين الرازي بأن السعادة الحقيقية، لا تكمن في الإشباع المادي الحسي الصرف، وإنما فيما يملكه الإنسان من علوم ومعارف وأخلاق فاضلة. فلو كانت السعادة مقرونة بإرضاء كل رغبات الإنسان وتحقيق كل حاجياته الضرورية، -يقول الرازي- لكان الحيوان هو اسعد المخلوقات، ما دام هو الاقوى والاقدر على تحقيق ذلك من الإنسان. وإذا كان الإهتمام بالملذات البدنية هو الطريق الانسب لتحقيق الكمال والسعادة الحقيقية، فلماذا يتضرر الإنسان من جراء الإسراف في الاكل والشرب؟ ولماذا يحتقر الشخص النهم والأكول من طرف الناس ويصنف من ضمن البهائم؟. إن دل هذا على شيء فإنما يدل على "أن الإشتغال بقضاء الشهوات ليس من السعادة والكمالات، بل من دفع الحاجات".
إذن فالسعادة الحقيقية حسب الرازي لا تتحقق بالإشباع الحسي والمادي وإنما باكتساب المعارف والعلوم والأخلاق الفاضلة، وفي ذلك يتميز الإنسان عن الحيوان.
قيمة التصور: يكتسي تصور الرازي قيمته من إعطائه الأهمية والأولوية لما هو عقلي وعلمي وأخلاقي في تحقيق السعادة، وتجاوز ما هو حسي ومتغير، لأن ما هو حسي ومتغير يشترك فيه الإنسان والحيوان، بينما الإنسان يتميز بخاصيتي العقل والنطق.
2)     تصور جون جاك روسو
إن السعادة حسب جون جاك روسو لا تتحقق إلا من خلال معادلة متكافئة بين رغبات الإنسان وقدراته.  إلا أن هذه المعادلة لم تكن ممكنة إلا في حالة الطبيعة، حيث كانت الرغبات بسيطة يستطيع الإنسان تلبيتها، ففي حالة الطبيعة "كان الإحساس الأول للإنسان هو الإحساس بوجوده، وقد كان همه الأول هو حفظ ذلك الوجود، وكانت منتجات الأرض توفر له كل أسباب البقاء الضرورية. وقد قادته غريزيته إلى استغلالها". وحين انتقل الإنسان من الحالة الأولى أي حالة الطبيعة إلى حالة المدنية والحياة الإجتماعية، فقد الإنسان سعادته، وذلك راجع إلى أن الإنسان في الحالة الثانية عرف تحولا من حيث الرغبات، اي ظهور الكمالات اللامتناهية، التي لا تتناسب وقدرات الإنسان، وكان ذلك سببا لشقائه وقلقه وألمه.
قيمة التصور: إن لتصور جون جاك روسو أهميته وقيمته، فهو تصور إنطلق من معادلة التساوي بين الرغبة والقدرة في تحقيق السعادة، وهي معادلة منطقية، حيث لا يمكن للإنسان أن يطلب سعادته فيما لا يستطيع تحقيقه. ويمكن ان ندعم هذا القول باستحضار مثال المجتمعات الراسمالية، التي يخضع أفرادها لنظام الطلبات والرغبات اللامتناهية، والتي تجعل الفرد يدور في حلقة مفرغة، ساعيا وراء سعادة متخيلة لا يقدر الإنسان على بلوغها.
ملاحظة: يمكن تدعيم هذه التصورات بتصور كل من أرسطو الذي يرى أن السعادة تتحقق عبر التامل العقلي، وتصور الفلسفة الأبيقورية التي ترى أن السعادة مرتبط بتحصيل اللذات وتجنب الألم، واجتناب اللذات التي تسبب الالم كالفسق، وطلب الفضائل كفضيلة الإعتدال والشجاعة والتعفف. يقول أبقور: "اللذة هي بداية الحياة السعيدة ومنهاها". و يمكن أيضا استحضار تصور إيمانويل كانط (السعادة من إنتاج الخيال)
اسنتاج
من خلال معالجة إشكال سبل  تحقيق السعادة، لا يمكن أن نستنتج إلا أن التصورات تتعدد وتختلف حول كيفية بلوغ السعادة، فهناك من يذهب إلى كون العلم والأخلاق هي طريق السعادة، وهناك من يؤكد على كون السعادة مرتبط بتحقيق اللذة وتجنب الألم، بينما هناك من اعتبرها صعبة التحقيق، سواء لأنها مجرد فكرة من نسج الخيال، أو لأنها مستحيلة في ظل تعدد ولاتناهي الرغبات، إلا أنه رغم كل ذلك، فالسعادة تبقى كغاية إنسانية، وكفضيلة اخلاقية، تتحقق بما هو ثابت وليس بما هو متغير، اي تتحقق بالفضائل الاخلاقية، وليس بالملذات والشهوات. فما هو فاضل لن يتحقق إلا بما هو فاضل.
  III.            السعادة والواجب.
إذا كان كل إنسان يطمح إلى تحقيق السعادة،  وكانت السعادة إرضاء تام للذات، يتسم بالقوة والثبات، ويتميز عن اللذة للحظيتها، وعن الفرحة لحركيتها. فإن الواجب يشير إلى ما يتوجب على الإنسان فعله، سواء بحرية أو عن طريق الإكراه. ومن هنا فقد يكون القيام بالواجب تحقيقا للسعادة، كما قد يكون معيقا لها. فما علاقة السعادة للواجب؟ هل القيام بالواجب تحقيق للسعادة، ام أن الواجب معيق امام تحصيلها؟
1)     تصور برتراند راسل
إن السعادة ليست حكرا على شخص دون غير، لذلك يرى راسل أن إسعاد الغير يعتبر واجب. حيث يدافع برتراند راسل على أن لكل إنسان الحق في السعادة، لكن بشرط ألا يكون على حساب الآخرين. من هنا يكون من واجب الإنسان أن يراعي حق الغير كذلك في السعادة. وبخصوص السعادة الحقيقية حسب راسل  فهي لا تكمن في  الموضات والهوايات فذلك نوع من الهروب من الواقع، ولكن السعادة تنبثق من فكرة التضحية بالذات التي يفرضها اﻹحساس بالواجب، بوصفه أمرا أخلاقيا مطلقا وملزما كما ذهب ﺇلى ذلك كانط. إن برتراند راسل يرى أنه من الممكن تحقيق سعادة الآخرين، من خلال الحرص على المعاملة الطيبة بغية إفساح  المجال أمام المشاعر الإنسانية من عطف وحب وسعادة. يقول راسل: " ربما كان حب كثير من الناس تلقائيا وبدون مجهود، أعظم مصادر السعادة الشخصية"، أي أن حب الغير يؤدي إلى سعادة الذات، لكن لا يجب أن يكون هذا الحب حبا غير تلقائي وغير عفوي.
خلاصة القول أن راسل يرى في القيام بالواجب طريق من أجل تحقيق السعادة، وهذا الواجب هو واجب إسعاد الآخر
قيمة التصور: لا يمكن إنكار أهمية تصور برتراند راسل، فهو تصور يؤسس لفضيلة أخلاقية وهي الغيرية، التي من خلالها يحقق الإنسان سعادته وسعادة الغير أيضا، ضدا على كل أنواع الأنانية والفردانية
2)     تصور ألان (إميل شارتيي)
إن السعادة عند ألان "إميل شارتي" سهلة المنال، وشرط ذلك أن يطلبها الإنسان، كما أنه من السهل على المرء أن يكون مستاء، حين يرفض ما تقدمه الحياة من عطايا. إن السعادة لا تتطلب أكثر من اللازم، وأكثر من قدرات الإنسان، فهي تتطلب أشياء قليلة وبسيطة مظاهر السعادة التي يلتمسها في علاقته بالآخر. بذلك يناشدنا آلان بعدم الاستسلام عند مواجهة الصعوبات وألا نعترف بالهزيمة قبل مواجهة ومقاومة نبذل فيها أقصى  ما نملك من القوة. فالسعادة لا توجد هناك بل مرتبطة برغبتنا وإرادتنا. فمن الواجب علينا أن نصنعها ونناضل من أجلها ونعلم الآخرين فن الحياة السعيدة وذلك بعدم التحدث أمامهم عن تعاستنا. فالشقاء واليأس منتشران في الهواء الذي نستنشقه جميعا، هذا يعني أن السعادة واجبة نحو الذات لأن سعادتنا تعني مباشرة سعادة الغير و تعاستنا تعني تعاسة الغير.  فرفض السعادة حسب ألان هو السبب فيما تعرفه الإنسانية من مآس وحروب، فهذه الجثث  و الخراب و التبذير، و التقوقع هي من أفعال أناس لم يعرفوا في حياتهم قط، كيف يكونوا سعداء، ولا يطيقون رؤية كل من حاول أن يكون سعيد. فنحن مدينون بالاعتراف و التتويج،  لأولئك الذين تغلبوا على هذه السموم وعملوا على تنقية جو الحياة الاجتماعية. لتصبح السعادة في نهاية المطاف قيمة أخلاقية توجه تصرفات الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر.
خلاصة القول أن السعادة وطلبها واجب، وواجب السعادة لا يتوقف عند الذات بل يتجاوزها إلى الغير، فمن الواجب إسعاد الآخرين، وطلبها منهم أيضا.
قيمة التصور: يعد تصور آلان تصورا قيما بخصوص مفهوم السعادة، لأنه تصور يدافع عن قيمة اخلاقية وهي السعادة التي يجب على الإنسان طلبها، وليس ذلك فقط، فهو يرى ضرورة إسعاد الآخر، وذلك عبر إسعاد ذواتنا، وعبر عدم إظهار تعاستنا وشقاءنا أمام الآخر.
استنتاج.
هكذا يتبين لنا بأن التصورات الفلسفية التي تطرقت إلى علاقة السعادة بالواجب، قد أكدت على أن القيام بالواجب المتمثل في محاولة إسعاد الغير، يؤدي إلى سعادة الذات ايضا، وبالتالي فلا تعارض بين الواجب والسعادة، بل هناك تكامل. وبالتالي فالقيام بالواجب وما ينص عليه من فضائل اخلاقية كالحب والغيرية يؤسس لمجتمع سعيد، يحترم فيه الشخص الغير.


مفهوم الحرية
يدل لفظ الحرية بمعناه الفلسفي على قدرة الفرد على اختيار غاياته والسلوك وفق إرادته الخاصة، دون تدخل عوامل تؤثر في تلك الإرادة. والحرية بهذا المعنى تخص الإنسان، غير أن هذه الحرية التي تضع الإنسان فوق جميع كائنات الطبيعة، وتبدو متعارضة مع مبدأ الحتمية الذي تخضع له على نحو ثابت كل واقعة. فهل نحن مسؤولون نختار أفعالنا أم مضطرون إليها؟ وما هي قوة إرادتنا في التحكم في حياتنا؟ وكيف ترتبط حريتنا بالمجتمع؟

     I.            الحرية والحتمية
تحليل نص باروخ اسبينوزا:

إذا كان الحيوان يحتكم في سلوكه وتصرفه إلى غريزته، فإن الإنسان يتميز عن الحيوان بكونه يحتكم إلى القواعد الأخلاقية. ومن  ثم كان الإهتمام بالأخلاق من طرف التفكير الفلسفي داخل ما يسمى بمبحث القيم. والقيم هنا هي يميز الوجود البشري باعتباره وجودا حرا. من هنا كان لزاما على التفكير الفلسفي البحث في مفهومين أساسيين وهما مفهوم الشخص باعتباره دلالة على الوجود الذاتي داخل الوجود الانساني، ومفهوم الحرية باعتبار الحرية هي ما يمز الشخص عن عالم الطبيعة وما يجعله كائنا أخلاقيا. ولعل من أبرز ما تم الإهتمام به داخل مبحث القيم مفهوم الحرية.  من هنا كانت ضرورة التفكير في الشخص والحرية وإن كان الإنسان حرا في تصرفاته وأفعاله، و قادرا على اختيار غاياته والسلوك وفق إرادته الخاصة، دون تدخل عوامل تؤثر في تلك الإرادة أم أنه خاضر للضرورات والحتميات. إذن، هل الإنسان حر في تصرفاته، يسلك وفق إرادته، أم أنه خاضع للحتميات والضرورات؟ بمعنى آخر هل يتمكن الإنسان من خلال إرادته من اختيار أفعاله وتصرفاته بحرية، بعيدا عن كل إكراه كيفما كان مصدره، أم أنه خاضع في هذا الإختيار لحتميات خارج إرادته ووعيه؟ وإذا كان الإنسان خاضعا للضرورة فما طبيعتها؟
يؤكد صاحب النص على أطروحة مؤداها أنه لا وجود لحرية إنسانية، فإذا كانت الحرية تعني قدرة الفرد على اختيار غاياته والسلوك وفق إرادته الخاصة، دون تدخل عوامل تؤثر في تلك الإرادة  فجميع الأشياء المخلوقة محددة بعلل خارجية في وجودها وافعالها. وتدل العلل الخارجية على كل ما يحدد فعل ووجود الشيء من الخارج، أي تلك العوامل التي تدفع الشيء إلى الفعل بغير حرية ولا إرادة، إذن فلا وجود لمجال الحرية وإنما هناك فقط الخضوع للعلل الخارجية التي تشير إلى الضرورة والحتمية. ولتوضح موقفه هذا يستحضر صاحب النص مثالا توضيحيا، وهو مثال حجر يتدحرج بفعل سبب خارجي، اي بقدر معين من الحركة، ثم بعد ذلك تتوقف تلك الحركة، في حين يواصل الحجر تدحرجه بالضرورة. فإن استمر الحجر في التحرك  فيكون ذلك بفعل إكراه. أي أن الحجر لا يتحرك بالضرورة، بل لكونه مدفوعا بعلة خارجية. وما يفهم من هذا المثال هو أن الفعل مرتبط بعلة خارجية تدفع إليه. وبعد استحضاره للمثال وشرحه، يعمم صاحب النص هذا القول على كل الأشياء الأخرى. حيث يقول: "وذلك لأن اي شيء كيفما كان لابد وأنه محدد بعلة خارجية تتحكم في وجوده وفعله". وبالتالي فكل شيء  بما في ذلك الإنسان، يخضع للعلل الخارجية، وهذه العلل تكون هي محدد الوجود والفعل. زيادة على ذلك يوظف صاحب النص مثال الحجر مرة أخرى، حيث يطلب من قارئي نصه أن يتخيلوا بأن ذلك الحجر يفكر، وأنه يبذل جهدا مادام مستمرا في حركته، يقول صاحب النص :" في هذه الحالة سيعتقد ذلك الحجر أنه حر وأن لديه إرادة في التحرك". ليعمم ذلك المثال على الحرية الإنسانية. فالحرية الإنسانية ليست إلا فكرة نابعة عن جهل بالضرورات والحتميات التي تغيب الحرية والإرادة.
خلاصة القول أن صاحب النص يرى في الحرية مجرد فكرة نابعة عن جهل بالأسباب، وأن كل شيء بما في ذلك الإنسان يخضع في فعله ووجوده لسبب (علة) خارجي. لكن ألا يمكن القول بدلا من ذلك أن الإنسان يمكن أن يسلك بحرية وبإرادة؟
لا يمكن أن ننكر أن لتصور صاحب قيمته، فهو تصور يتجاوز التصورات التي ترى أن الإنسان حرا حرية مطلقة، يتصرف وفق إرادته ومشيئته، ويستطيع تجاوز كل الحتميات والضرورات. إلا القول بخضوع الإنسان للعلل الخارجية وللحتميات والضرورات هو نفي لتميز الإنسان عن الحيوان بالوعي، ونفي لقدرته على تجاوز عالم الطبيعة والسلوك بحرية. إذن ألا يمكن القول بأن الوجود الإنسان وجود حر يتجاوز الإشراطات الطبيعية البيولوجية؟ يمكن القول بأن الإنسان يمكن أن يتجاوز كل الإكراهات والضرورات والحتميات. فالإنسان مشروع وأن ماهيته هي الحرية كما قال بذلك الفيلسوف جون بول سارتر، فالإنسان يتميز بالوعي وبالحرية، الشيء الذي يمكنه من تجاوز ما هو موجود، أي تجاوز الإكراهات والضرورات الاجتماعية والاقتصادية. إن الإنسان حسب سارتر ليس مجرد وسيلة خاضعة توجهها دوافع وقوى خارجة عنها. إن الإنسان من وجهة نظر الوجودية السارترية مشروع. لكن، إذا كان الإنسان يستطيع التصرف بحرية، نظرا لما يمتلكه من وعي، فإن وعيه هذا يكون مجردا خاضع للاوعي، ففرويد يرى أن هناك ما يحد ويحكم حرية الإنسان، حيث يخضع الإنسان حسب قوله إلى ثلاثة أشداء وهم: العالم الخارجي والهو والأنا الأعلى...
إذن نخلص إلى أن الحرية تبقى مفهوما إشكاليا، ومأزقا فلسفيا، حيث أن الإنسان يتراوح في سلوكه  بين الحرية وبين الحتمية، فيمكن أن يكون حرا انطلاقا من تميزه بالوعي والإرادة، لكن يمكن أن يكون خاضعا للحتمية، حيث يكون الإنسان غير قادر على تجاوز الضرورات والإكراهات، التي قد تكون سيكولوجية أو اجتماعية أو اقتصادية. لكن رغم كل ذلك، تبقى الحرية قيمة اخلاقية وغاية إنسانية، تميز الكائن الإنساني عن باقي الكائنات الأخرى.




 II.            الحرية والإرادة
تحليل سؤال إشكالي مفتوح:
هل تسمح الإرادة بحرية مطلقة؟
يتحدد الوجود الإنساني بكونه وجود أخلاقي، تحكمه القيم الأخلاقي. والحديث عن القيم الأخلاقية يدفعنا إلى الحديث عن مفهوم الحرية الذي يأتي في مقابل مفهوم الحتمية. والحديث عن مفهوم الحرية يدفعنا إلى الحديث عن علاقة الحرية بالإرادة، فهذين المفهومين مفهومان متلازمان. والحديث عن علاقة الحرية بالإرادة يدفعنا إلى البحث في إمكانية أن تقود الإرادة إلى حرية مطلقة، من عد إمكانية ذلك. أي إن كان الإنسان يستطيع التصرف وفق حرية مطلقة انطلاقا من إرادته، أم  أنه لا يستطيع تجاوز الإكراهات. إذن، ما الحرية؟ وما الإرادة؟ وهل تسمح الإرادة بحرية مطلقة للإنسان، أم أن الإنسان لا يستطيع تجاوز الإشراطات والإكراهات سواء كانت اجتماعية أو نفسية؟ بمعنى آخر هل للإنسان القدرة على السلوك والتصرف بحرية أم لا؟ وإن كان يستطيع ذلك، فهل يمكنه السلوك والتصرف  بحرية مطلقة أم نسبية فقط؟
قبل الإجابة لابد أولا من تحليل هذا الإشكال الفلسفي، المتعلق بعلاقة الإرادة بالحرية. من حيث المضمون فالسؤال الإشكالي يساءلنا عن الإرادة، وبالضبط إن كانت الإرادة تسمح بالحرية المطلقة. بمعنى آخر، إن كان الإنسان يستطيع التصرف بحرية مطلقة نظرا لما يتميز به من إرادة ، متجاوزا كل الإكراهات والإشراطات والضرورات، أم أن الإنسان لا يستطيع بلوغ الحرية، وحتى إن استطلع ذلك فلن يستطيع بلوغ حرية مطلقة وإن حرية نسبية فقط. من هنا يتبين لنا أنه لابد أولا من تفكيك بينية السؤال المفاهيمية. يتضمن السؤال مفهومين أساسين وهما الحرية والإرادة. وتدل الحرية في دلالتها العامة على قدرة الإنسان على الفعل أو الإمتناع عنه، بعيدا عن كل إكراه كيفما كان مصدره، بمعنى آخر فالحرية هي حالة الكائن الذي لا يعاني إكراها. أما الإرادة فهي القدرة على الإختيار والتصرف وفق ما يمليه تفكير الفرد. ويظهر حسب السؤال الإشكالي أن مفهوم الحرية مرتبطا بمفهوم الإرادة، ولا يمكن تصور حرية بدون إرادة. بعد تفكيك السؤال مضمونا ومفاهيمية يمكن أن نبين كيف أن الإرادة يمكن أن تمكن الإنسان من السلوك بحرية.
يرى ديكارت وهو فيلسوف فرنسي، أن الإنسان كائن حر في اختياراته، وأن هذه الحرية تقوم على الإرادة. فالإرادة حسب ديكارت لا تخضع لأي إكراه خارجي، كما تعد أكمل وأعظم ما يمتلك الإنسان لأنها تمنحه القدرة على فعل الشيء أو الإمتناع عن فعله انطلاقا من معرفة مسبقة بالفعل وبنتائجه، فهي التي تخرجه من وضعية اللامبالاة وتدفعه إلى الإنخراط في مجال الفعل والمعرفة والإختيار الحر. وفي هذا السياق يميز ديكارت بين حرية سلبية تتجلى في اللامبالاة، وبين حرية إيجابية تتمثل في القدرة على التصور والحكم والتحرر. قيم الأ
خلاصة القول، أن الإنسان قادر على السلوك والتصرف بحرية، انطلاقا من ما يتميز به من إرادة. لكن ألا يمكن أن يكون القول بحرية الإنسان انطلاقا من إرادته قولا خاطئا يجهل ما يحكم الإنسان من حتميات وضرورات؟
لا يمكن أن ننكر ان الحرية قيمة إنسانية، تميزه عن عالم الطبيعة الذي هو عالم الحتميات والضرورات والإكراهات، من هنا كان ذلك التأكيد على كون الحرية ماهية الإنسان. ولعل أبرز من مثلوا هذا الموقف هو الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، الذي نصب نفسه عدوا لدعاة الجبرية والحتمية. فالإنسان حسب وجودية سارتر يشكل ذاته وهويته ويحددها في ضوء ما يختاره لنفسه كمشروع في حدود إمكانيته. فيكون الإنسان من هذا المنظور الذي عبرت عنه الوجودية، ليس فقط كما يتصور ذاته فحسب، بل كما يريد أن يكون. وبهذا يكون سارتر مدافعا عن الموقف الذي يرى الإنسان حر من خلال إرادته في أن يكون ما يريد. وإذا أردنا مقاربة مفهوما الإرادة والحرية من منظور أخلاقي، فلابد من استحضار الفيلسوف الالماني كانط. فكانط يرى أن المجال الذي تمارس فيه الإرادة الحرة فعلها هو مجال الأخلاق. ذلك أن الإنسان يستطيع ككائن عاقل أن يعتمد على إرادته الحرة في وضع القواعد العقلية للفعل الإنساني. وعندما يخضع الإنسان لهذه القواعد فإنه يمتثل لإرادته ويمارس حريته. إلا أن هذا القول لم يلقى ترحيبا من طرف بعض الفلاسفة، ونذكر هنا الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي ذهب إلى انتقاد الأخلاق الكانطية، باعتبارها اخلاق تقصي ما هو حسي وغريزي في الإنسان،  وبالتالي فهي تقصي ما هو إنساني في الإنسان. لذلك أكد نيتشه على أن الإرادة الحرة هي إرادة الحياة التي يحياها الفرد كام يريد وكما يشاء، بعيدا عن كل حتمية أخلاقية كانت أو اجتماعية. ورغم كل ذاك فهناك من ينفي خاصية الحرية والإرادة عن الإنسان، حيث ان أن الإنسان مثله مثل باقي الكائنات الأخرى يخضع للعلل الخارجية، التي تحدد وجوده وفعله.
هكذا يتبين لنا أن الحرية ترتبط بالإرادة، وأن الإرادة تسمح للإنسان بتجاوز المحددات الإكراهات، سواء كانت اجتماعية او اقتصادية أو طبيعية، كما تبين لنا كيف أن الإنسان انطلاقا من إرادته يستطيع أن يحيا حياته كما يشاء، وأيضا أن يضع القواعد الإخلاقية التي تنظم حياته الإجتماعية. إلا أن هناك من عارض فكرة حرية الإنسان، وبالتالي فكرة الخضوع للإرادة أيضا. من هنا يظهر لنا كيف أن مفهوم الحرية وعلاقته بمفهوم الإرادة كان محط مقاربات فلسفية متعددة، حاولت الكشف عن ما هو باطن، والإجابة عن ما هو إشكالي، فلا يمكن البحث في المجال الأخلاقي دون البحث في قضية الحرية.









III.            الحرية والقانون
تحليل قولة فلسفية:
 "الحرية هي حق فعل ما تبيحه القوانين"
إن السياسة والأخلاق لا يتناقضان، بل يترابطان، فإذا كانت السياسة تتوخى تدبير الشأن العام، فالإخلاق أيضا تراعي القواعد الأخلاقية التي من خلالها ينظم الشأن العام الإجتماعي والسياسي، كما تراعي توجيه السلوك الإنساني نحو فعل الخير والامتناع عن الشر. من هنا كانت الحاجة إلى جهاز الدولة، الذي يتخذ من الحرية غاية من غاياته الجوهرية، حيث أن الحرية من بين أسمى الغايات الإنسانية. لكن مفهوم الحرية يرتبط بمفهوم القانون، ما يدفع إلى التساؤل عن العلاقة بينهما، وإن كان القانون يسمح بممارسة الحرية، أم أنه معيق لها. وأيضا إن كان القانون يسمح بحرية مطلقة أم أنه يقيدها وفق قواعد وضوابط. إذن، ما الحرية؟ وما القانون؟  وهل يسمح القانون بممارسة الحرية، أم أنه يعيقها؟ وهل القانون بقواعده وضوابطه يسمح بحرية مطلقة أم أنه يقيدها؟ وهل يمكن تصور حرية خارج إطار القانون؟
يتضح من خلال قراءة القولة والتمعن في مضمونها، أنها تؤكد على كون الحرية حقُ فعلِ ما تبيحه القوانين، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الحرية مقيدة بالقوانين. فإذا كانت الحرية هي القدرة على الفعل أو الإمتناع عنه، فإن ذلك الفعل مقيد بالقوانين التي تفيد مجموع القواعد والضوابط المتواضع عليها، التي تروم تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع. أيضا، فالحرية باعتبارها حق الفعل ليست حرية مطلقة وإنما حرية مؤسسة على القانون وعلى المؤسسات. لكن كيف تكون الحرية هي فعل ما تبيحه القوانين؟ في هذا الصدد يمكن الإستئناس بما قدم أحد فلاسفة الأنوار وهو مونتسكيو، الذي ذهب في كتابه روح القوانين إلى أن الحرية لا يمكن فهمها إلا داخل إطار القانون، كما أنها لا تربط  بإرادات الأفراد المتعددة، وإنما بالقوانين وحدها. يقول مونتسكيو: "إذا ما استطاع أحد من الناس أن يصنع ما تحرمه القوانين سيفقد الحرية، وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما فعل" لذا يرى موتسكيو أن الحرية تحتاج إلى حدود، وهذه الحدود هي القوانين المسطرة من طرف المجتمع. لكن، يمكن أن تكون تمارس السلطة بشطط، لذلك يدعو مونتسكيو إلى الفصل بين السلط التشريعية و السلطة التنفيذية، فجمعهما في يد شخص واحد أو هيئة واحدة قد يؤدي إلى الإستبداد، وإصدار الأحكام اعتباطيا، وبالتالي غياب الحرية السياسية.
خلاصة القول أن الحرية باعتباره الحق في الفعل، مرتبطة بالقوانين التي تقيد الحرية، ولا تجعلها حرية مطلقة في الفعل، وبالتالي فالقانون ضامن للحرية. لكن هل القوانين فعلا ضامنة للحرية أم أن يمكن أن تكون عكس ذلك؟
إن القول بارتباط الحرية بالقوانين، وتقيد الحرية بقوانين يسنها أفراد المجتمع، يجعل من موقف الأطروحة موقفا قيما وذو أهمية، حيث أن الحرية المطلقة ستؤدي إلى الفوضى، وهي الحالة التي كانت سائدة في حالة الطبيعة، الحالة التي كانت فيها الحرية حرية مطلقة، وكان كل فرد يسلك وفق طبيعته وأهوائها. إلا أن القوانين يمكن أن تكون قوانين غير عادلة، وبالتالي لن تسمح بالحرية، وإنما بالإستبداد. فهل القانون ضامن للحرية فعلا؟ بما أن الحرية المطلقة هي ميزة حالة الطبيعة ، وأن هذه الحرية هي تهديد للإنسان، فقد ذهب فلاسفة عصر الأنوار إلى ربط الحرية بالمجتمع المدني والقوانين، والخروج عن القوانين لن يؤدي إلا إلى الفوضى. فطوماس هوبز مثلا يقر بضرورة القانون حيث يقول: "صحيح أن كل فرد يتمتع خارج المجتمع المدني بحرية كاملة، لكنها حرية غير مجدية، لأنها في الوقت الذي تمنحنا امتياز فعل كل ما نهواه، تمنح الآخرين قوة إيذائنا كما يريدون، لكنها عندما تكون تحت حكومة دولة قائمة، فإن كل شخص لا يتمتع بالحرية إلا بالقدر الذي يكفيه منها كي يحيى حياة يسيرة". نفس القول المؤكد على ضمان القانون للحرية أكدت عليه حنا آرندت، تقول أرندت: "إننا نعي أولا، الحرية أو نقيضها، عندما ندخل في علاقة مع غيرنا، وليس في علاقتنا مع ذواتنا، فالحرية قبل أن تصبح صفة للفكر أو سمة من سمات الإرادة، قد تم فهمها باعتبارها وضعا للإنسان الحر، الذي يسمح  له فيه بالتنقل وبالخروج من منزله، وبالتجوال  في العالم والإلتقاء بغيره..." وبالتالي فالحرية حسب آرندت هي فعالية، مرتبط بالمجالي السياسي والإجتماعي، ولا حديث عن حرية خارج هذا الإطار. لكن هذا الموقف لم يكن ليروق لبعض المفكرين الذي يرون في القوانين تضييقا لمجال الحرية، وفي هذا الصدد يمكن أن نستحضر موقف الفيلسوف الألماني ماكس سترنر Max Stirner الذي يقول: إن الدولة لا تروم إلا غاية واحدة: تقييد واستبعاد الفرد". وهو نفس تصور الفلسفة الماركسية للدولة ولقوانينها.
هكذا نخلص إلى أن الحرية مرتبط أشد الإرتباط بالقانون، فغياب القانون سيؤدي إلى الفوضي والإقتتال وبالتالي إلى القضاء على الحرية، سواء كانت حرية اجتماعية أو سياسية. لكن ارتباط الحرية بالقانون لا يعني أن يكون القانون على حساب الحرية، فالقانون الذي يؤسس للحرية هو القانون العادل الذي يحترم المواطنين، وغير ذلك يكون القانون عائقا أمام الحرية. بهذا يظهر لنا كيف أن الحرية غاية إنسانية وقيمة أخلاقية سامية، يتوخى الجميع تحقيقها وبلوغها.

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات