القائمة الرئيسية

الصفحات

الشخص بين الحرية والضرورة - تحليل نص باروخ اسبينوزا



تحليل نص باروخ اسبينوزا                                   
   إنجاز ذ: المغراوي محمد


تعريف الفيلسوف: باروخ سبينوزا هو فيلسوف هولندي . ولد في 24 نوفمبر 1632 في أمستردام، وتوفي في 21 فبراير 1677 في لاهاي. وهو واحد من بين أبرز فلاسفة القرن17. من أعماله: رسالة في اللاهوت والسياسة (1670)، الأخلاق (1677)
في دلالة المفهومين

الحرية: نجد في معجم جميل صليبا المعنى التالي  للحرية: الحرية خاصية الموجود الخالص من القيود، العامل بإرادته أو طبيعته... وإذا كانت الحرية مضادة للحتمية  دلت على حرية الاختيار، وهي القول إن فعل الإنسان متولد من إرادته . إذن فالحرية حالة الكائن الذي لا يعاني إكراها، والذي يتصرف وفقا لمشيئته وإرادته وطبيعته.
لكن يجب التمييز بين دلالة مفهوم الحرية أنطولوجيا (وجوديا)، وسياسيا وأخلاقيا. فالحرية بمعناها الأنطولوجي هي غياب كل إكراه خارجي، أي قدرة الإرادة على الفعل، وتجاوز الضرورات، ولا يحد الحرية بهذا المعنى إلا غياب القدرة على الفعل. لكن في معناها السياسي تدل على التصرف والسلوك وفق ما يسمح به القانون/ وبالتالي تفيد الحرية فعل كل ما لا يمنعه القانون، فهي مرادف للحرية المدنية. أما في معناها الأخلاقي، فهي  القدرة على اختيار فعل الخير بدل فعل الشر دون إكراه خارجي.
الضرورة: تفيد الخضوع وغياب الحرية في الفعل، وبالتالي فهي تأتي في مقابل مفهوم الحرية، بحيث تدل على الإكراه، والحتميات والإشراطات التي تجعل من سلوك الشخص سلوكا مفروضا، غير نابع من اختياره أو إرادته. لكن الحتمية تختلف عن الضرورة، فالحتمية لا يمكن أن نتجازها، عكس الضرورة التي يمكن تجاوزها.وتأخذ الضرورات عدة أشكال، فهناك الضرورة الطبيعة وهناك الضرورة الإجتماعية والضرورة السيكولوجية.

التأطير الاشكالي للنص
يعرف الشخص عادة بكونه ذاتا واعية، تعي وتتعقل ذاتها داخل هذا الوجود. إلا أن الشخص لا يتميز فقط بالقدرات العقلية وبخاصيتي الوعي والارادة، وإنما يتميز أيضا بانتمائه لعالم الطبيعة، وأيضا فهو ينتمي إلا وجود اجتماعي باعتباره كائنا اجتماعيا، وهنا نجد أنفسنا أمام إشكال فلسفي، متعلق بقدرة الشخص من عدم قدرته على السلوك بحرية في أفعاله واختياراته، وتجاوز الإشراطات والضرورات التي يمكن أن تحد من حريته. إذن  فالشخص باعتباره مفهوما فلسفيا يضعنا أمام تقابل جوهري يمكن صياغته إشكاليا على الشكل التالي: هل الشخص حر أفي أفعاله واختياراته م أنه خاضع للضرورة؟  بتعبير آخر، هل الشخص يستطيع تجاوز الإكراهات الخارجية والسلوك وفق إرادته، أم أن حرية الشخص ما هي إلا جهل بالأسباب؟ وإذا كان الشخص، حرا ففيما تتجسد حريته، هل في قدرته على تجاوز الضرورات مثلا؟  وإن كان خاضعا للضرورة، فهل الضرورة التي يخضع لها هي ضرورة طبيعية أم سيكولوجية أم اجتماعية؟

تحليل النص
إجابة على التساؤلات والإشكالات الاخيرة، سننطلق من تحليل إحدى الأطروحات الفلسفية، التي تعود إلى الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا. ففي كتابه "الإتيقا"، يتبنى اسبينوزا أطروحة مفادها أنه لا وجود لحرية إنسانية، وأن القول بالحرية ما هو إلا جهل بالأسباب. معنى ذلك أن الإنسان خاضع للضرورة ، وأن جهل الإنسان لتلك الضرورات التي تدفعه إلى الفعل هو الذي جعله يظن أن حر.  ولتوضيح موقف الفيلسوف يمكن الوقوف عند البناء المافهيمي الحجاجي للنص.
بخصوص  البنية المفاهيمية المؤثثة للأوطوحة وللنص عموما، يشكل مفهوم الحرية المفهوم الأساسي والمركزي، وتدل الحرية على غياب كل إكراه خارجي، كما تدل أيضا على قدرة الإرادة على الفعل. وما دام النص ينتقد الحرية الإنسانية، فهو يؤكد على وجود إكراهات تحد من حرية الفعل، بل أكثر من ذلك تغيبها تماما. وهنا لا بد من الوقف عند مفهوم أخر يرتبط بالحرية ، ولا يمكن فهم الحرية إلا باستحضاره وهو مفهوم الرغبة والذي يشير إلى كل المجهودات والإندفاعات والشهوات والأفعال الإرادبة  لدى الإنسان. وبخصوص العلاقة بين مفهوم الحرية ومفهوم الرغبة، فيمكن القول أنه لا يمكن فهم حرية الإنسان إلا في رغباته، وأن الرغبة هي التي يحد من حرية الإنسان، وتوجه إرادته.
ينطلق صاحب النص من مفكرة مفادها أن الأحوال الإنسانية كانت ستكون أفضل لو أن الإنسان هو الذي يقرر متى يتكلم ومتى يصمت، غير أنه ليس صاحب القرار. إضافة إلى ذلك يؤكد صاحب النص أن الواقع أثبت بأن ما يمكن للبشر التحكم فيه هو ألسنتهم، وشهواتهم. زيادة على ذلك يؤكد الفيلسوف على أن الذي يجعل الإنسان يظن بأنه حر هو  أنه يسهل كبح رغبتنا اتجاه الأشياء التي نميل إليها باعتدال، أي التي  لا ننجذب إليها بقوة، والتي يمكن العدول عنها بمجرد تذكر شيء آخر. وأننا لا يكون أحرارا إطلاقا إزاء الأشياء التي نرغب فيها بشوق شديد. وهنا يقدم صاحب النص دليلا على أننا  خاضعين ولسنا أحرارا، وهو أننا ندرك الافضل ونتبع الأسوء. وأننا نندم على الأفعال التي تصدر عنا، ومفاد ذلك أنه لو كنا أحرارا لاخترنا الأفضل بدل الأسو  ولما ندمنا على أفعالنا، وهذا دليل على أن هناك ما يدفعنا إلى الفعل ويوجه إرادتنا ويكبح حريتنا. وفي هذا السياق يقدم صاحب النص جملة من الأمثلة ليبين كيف أن القول بالحرية هو قول خاطئ، ومن بين تلك الأمثلة  مثال الصبي الذي يعتقد أنه يرغب في الحليب بحريته، ومثال الشاب المنفعل الذي يريد الإنتقام، ومثال الجبان الذي يلوذ بالفرار، ليؤكد على أن هؤلاء الأشخاص محكومون بشهواتهم، فالطفل الذي يرغب في الحليب لا يرغب فبه بمحض إرادته وإنما لأن شهوته تدفعه إلى ذلك. لينتهي صاحب النص إلى أن أوامر النفس لا معنى لها خارج الشهوات، بمعنى أن الشخص حين يأمر ذاته فإن ذلك الأمر مرتبط بشهواته لا بحريته.
هكذا يتبين أن الحرية حسب صاحب النص ما هي إلا جهل بالأسباب، وأن الشخص خاضع للضرورات والإكراهات خاصة الطبيعة منها والمتمثلة في الغرائز والشهوات.

مناقشة تصور اسبينوزا

لا يمكن أن ننكر القيمة الفكرية لهذا التصور الفلسفي، فالإنسان حقا لا يمكنه أن يمارس حريته حين يتعلق الأمر بما هو طبيعي، فالإنسان كما الحيوان مرتبط بطبيعته، بشهواته وغريزيته، وبالتالي لا يمكن تصور حرية الإنسان باعتبارها حرية مطلقة، تتجاوز كل الإشراطات والضرورات. وهذا القول انتقاد للتصورات الماهوية التي جعلت من الحرية ماهية للإنسان وجوهرا له. غير أن القول بخضوع الشخص للضرورات والإشراطات خضوعا مطلقا، يجعل الإنسان في نفس مرتبة باقي المجودات الأخرى التي تظل هي الأخرى خاضعة للنظام الطبيعي الذي يحدد الفعل ويحكم الظواهر. فهل الشخص حقا غير قادر على السلوك بحرية؟ ألا يمكن للإنسان وفقا لما له من خصائص كالوعي والحرية أن يتجاوز الإكراهات والضرورات؟ ألا يمكن للشخص أن يكون حرا ولو بشكل نسبي؟
لقد تعرضت الأطروحات القائل بعدم قدرة الإنسان على السلوك والتصرف بحرية للنقد من طرف مجموعة من الفلاسفة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر  رائد الفلسفة الوجودية ، الفيلسوف الفرنسي المعاصر جون بول سارتر، والذي يذهب  إلى عكس ما ذهب إليه صاحب النص. فإذا كان صاحب النص يؤكد على خضوع الإنسان، وعلى غياب الحرية. فسارتر يذهب إلى أن الإنسان حر، وإلى أن الحرية هي قدر الإنسان. وينطلق في موقفه هذا من مبدأ وهو الإقرار بأن الوجود يسبق الماهية، بمعنى أن الإنسان يولد أولا ويلاقي ذاته ويبرز إلى العالم، ثم يحدد بعد ذلك ما سيكون. إن الإنسان حسب سارتر غير قابل للتعريف عندما يكون لاشيء ، وسيكون ما سيصنعه بنفسه فيما بعد. إن الإنسان في نظر سارتر يشكل ذاته وهويته ويحددها في ضوء ما يختاره لنفسه كمشروع في حدود إمكانياته. وبهذا الموقف يكون سارتر قد انتقد كل دعاة الجبرية والضرورة.  
لكن موقف سارتر يمكن انتقاده كذلك، فإذا كان اسبينوزا يؤكد على الخضوع المطلق، وإذا كان سارتر يرى أن الإنسان حر حرية مطلقة، فهناك من أكد على أن الإنسان لا هو حر حرية مطلقة ولا هو خاضع بشكل مطلق، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر الفيلسوف الفرنسي المعاصر "إيمانويل مونييه" رائد الإتجاه الشخصاني. يؤكد إمانويل مونييه أن حرية الإنسان ككل ما هي إلا حرية شخص، وأن الحرية ملازمة للوضع الواقعي ومحصورة في نطاق حدوده، وبهذا فالحرية ليست حرية مطلقة. لذلك وجب أولا القبول بالظروف الأولية، لأنه ليس كل شيء ممكنا، وبعد ذلك البحث عن التحرر من خلال الإختيار والتضحية، وهنا يتضح كيف أن الحرية مرتبطة بالحواجز، فلا يمكن حسب مونييه الحديث عن حرية دون وجود حواجز، حيث يقول: هذه الحدود تشكل قوة عندما لا تكون ضيقة جدا. ولزيادة الإيضاح يمكن الوقف عند بعض المفاهيم المركزية في فلسفة مونييه والتي من بينها نجد مفهوما التحرر والشخصنة. أما بخصوص التحرر، فيعني أن الحرية ليست معطاة إنما هي فعالية، وأما بخصوص الشخصنة فهي عملية يقوم بها الكائن البشري حتى يصل إلى مرحلة الإنسان بالإنفتاح على المثل العليا وعلى المجتمع وعلى العالم.

خلاصة تركيبية

نخلص في الأخير إلى أن الشخص بما هو ذات إنسانية عاقلة وواعية، يخضع إلى مجموعة من الإشراطات والضرورات منها ما هو طبيعي بحكم انتماء الإنسان إلى عالم الطبيعة،  ومنها ما هو اجتماعي بحكم كون الإنسان كائنا اجتماعيا،  ومنها ما سيكولوجي بحكم كون الإنسان يشكل بنية سيكولوجية ، غير أن الشخص يمتلك ما يمكنه من تجاوز كل تلك الضرورات والإشراطات  ولو بشكل نسبي، فالشخص كما عرفه جون لوك كائن مفكر وذكي، وخاصية الفكر والوعي تمكن الشخص من التعالي ومن تجاوز وضعه. فالقول بالخضوع المطلق للشخص سيجعله في نفس درجة باقي الموجودات، أكثر من ذلك فالقول بالحرية هو الذي سيجعل الشخص يتحمل مسؤولية أفعاله واختياراته.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات